Thursday, March 5, 2015

منهجية المثقف العربي

منهجية المثقف العربي
بين العلم والاعلام..
نظرات في منهجية التعامل مع ثورات العالم العربي
نجم العيساوي[*]
ان المتتبع للسياسات الاعلامية التي يتبعها الاعلام لاسيما الاعلام الغربي خاصة، يجد أن اغلب هذه السياسات تقف وراءها أجندات معينة تخدم قضايا سياسية محددة؛ منها مايتعلق بتحسين صور ومواقف حدثت في الماضي أو تشويهها، ومنها ماينصب على تسخير المضامين والاخبار لتثبيت صورة معينة حالية وترسيخها في اذهان المتلقين وخصوصا في اذهان اولئك المستهدفين من تلك القضايا او المواقف، ومنها مايتعلق برسم صورة مستقبلية لمواقف تعمل عليها السياسات الدولية وذلك من خلال الترويج والتلفيق ونقل الاخبار التي تكسوها المبالغة والتشويه والتشويش لاثارة عقل المتلقي وتهيئة الجمهور الداخلي والخارجي لحدث قادم او تسهيل اليات الوصول اليه، وبالتالي تقبله والتعايش معه كواقع مفروض.
وهذا ليس بالغريب على السياسات عموماً وخاصة الغربية منها سواء كانت اعلامية او ادارية او سياسية، كما أنها ليست بالمعلومة الجديدة على القاريء، لكن الجديد نسبياً هو تطويع المثقف العربي ليكون وسيلة اتصال جديدة تضاف الى وسائل الاعلام التقليدية التي يستغلها الاعلام الغربي وينجح في تسخيرها لتدعيم رسالته وسياسته الاعلامية، تختصر هذه الوسائل الزمان والمكان والوسائل التقليدية المعروفة في عالم الاعلام والاتصال، فاقت هذه الوسائل الجديدة الاعلام الاجتماعي والفضائي وقطعت المسافات الطويلة بسرعة البرق، خاصة تلك المسافات التي توصل الى عمق المجتمعات وأعرافه وتقاليده وقراراته الداخلية، والتي يحتاج الاعلام الغربي الوصول اليها ويجد في ذلك صعوبة بالغة، مستهدفاً هذا "الانجاز المجاني" الجمهور العربي خاصة وجمهور العالم الثالث عامة.
وبمعنى اخر فان وسيلة الاتصال الجديدة هي "بعض العقل العربي المثقف نفسه"، نعم اليوم وجد الاعلامُ الغربي من ينصره من مثقفي ومفكري العالم الثالث بالرغم من الضلال الذي يدعو اليه والظلم الذي يمارسه من خلال التطبيل والترويج للحروب والتدمير بحق الشعوب الامنة في العالم، يرافق ذلك تضليل ممنهج يسلكه تجاه الشعوب الغربية، واكثر العقول استجابة هي عقول بعض المثقفين العرب الذين يعيشون نشوة الشهادة ويشعرون بعلو مواقعهم والمخدوعين  بهالة الظهور الاعلامي وبريق الاضواء التي يصطنعها تجار الشعوب من سدنة الغرب والشرق من خلال ترسانة الاعلام والمال، فيكونون صورة طبق الاصل لما يريد الاعلام والمنظومة السياسية الغربية، فتغرد عبر مواقعها بسماجة وسذاجة لتناهض الاصول القيمية والمبدئية للمجتمع العربي، فتسخر من رموز أو شعوب أو دولٍ فيها فسحة الحرية عالية، لترفع من مكانة دولة أو نظام ياتي الرذيلة ليلا ونهاراً، أو أسلم امكانات شعبه الى غريب يسبي النساء ويقتل الاطفال، وكل ذلك بلا منهجية منصفة او اسلوب علمي مقبول، مستخدمة تلك العقول في ذلك ابشع اساليب التشويه والتشويش في منهجية مستمرة تؤكد مستوى الغسيل الذي تعرضت له هذه العقول بحيث انها لاتميز بين اسود وابيض او حق وباطل..
وان يعتقد المرء أن الغرب يقتنص الفرص ويركب الامواج لاجل مصالحه ومنافعه ومطامعه، لهو اعتقاد مقبول ومنطقي وهو الحقيقة، لكن ان تؤمن ان كل كل حركة وسكنة في الكون هي بارادة الغرب، وان ثورة تحدث في بلاد العالم الثالث هي من تدبير الغرب، وان كل جهد تغييري وراءه الصهيونية، تضطرني ان اعتقد بسذاجة هذا الاعتقاد وبدائيته وضحالة حامله- وان كنت لا انكر أن للصهيونية يداً في كل مكان تحاول ان تمسك بها عصىً تضرب بها من يزعج انظمتها، او تحرك خيوطاً لتبقي على شعوب العالم الثالث تغط في نومها وعجزها.
لكن لنا ان نحلل اسباب هذه الثورات او الحركات او الفوضى التي تعقب تلك الثورات لان الثورة ليست انقلابا وحسب، أو أنها مؤامرة خارجية بالضرورة، كما ان ليس كل تغيير فوضى، بل ان التغيير او الثورة نظرية واسعة كونتها مجموعة ظروف ظاهرية ودفعت بها مواقف اجتماعية  وسياسية معينة، مع العلم ان اغلب ثورات العالم الثالث تقف وراءها اسباب اجتماعية اكثر منها سياسية، لتؤكد ان كثيرا منها يقع في دائرة التحولات الطبيعية والانتفاضات البشرية المتوقعة ضد حدث او موقف يتكرر فيه ظلم او تجاوز على كرامة هذا الشعب او ذاك، فاذا قيل عن ثورة شعب ثائرٍ أنها مؤامرة فهو وصف يصحّ عندما نضع ضمن احتمالات منهجيتنا النقدية أن المؤامرة التي تجتمع فيها كل عناصر الثورة والتغيير من الواقع الداخلي فقل عنها مؤامرة، نعم انها مؤامرة الشعب كله على نظام فاسد.
وهنا يأتي دور الاعلام الغربي واذنابه – المكلفين والمتطوعين- ليتلاعب بوعي الجمهور مستغلاً لعبة المصطلحات، فينعت الثائر البطل بـ "المجهول" وحركة الاحتجاج بـ "الاضطرابات" والمطالب الاجتماعية بـ "الشعارات" ودعاة التغيير بـ "أصحاب الاجندات" وهكذا يستمر التطبيل والتزمير حتى يبلغ التهويل والتضليل مداه ليقول كلمته الاخيرة ان هذا الشعب "مغرر به" وان هناك "مؤامرة" ضد "وطنية الدولة"!!.
ولا ادري كيف يتهم بعض مثقفي العرب جميع الثورات انها ثورات قامت من خلفية صهيونية!! لعمر الله أن اتهامك هذا يبعث الشك فيمن وراءك!!. وكيف لمثقف امتهن في بحوثه المنهجية العلمية في البحث والاستقصاء يتخلى عن هذا الطريق ليسلك طريقاً لايسلكه الا جهلة العلم، واقزام الباحثين؟
ومن أسوأ ما رأيت في جيل المثقفين الحاضر أن قسماً كبيراً منهم يلعن الاعلام الغربي لكنه يؤمن بالافكار ذاتها التي يطلقها ذلك الاعلام ويرددها، فلاهو أعمل الفكر في مايجب، ولا هو اتبع منهجية الباحث او الاكاديمي في الوصول الى نتائج علمية تقترب من فرضية صحيحة او حتى الحقيقة.
أما عن الفوضى التي تعقب بعض الثورات وخاصة الثورات التي تحدث في العالم الثالث فان تفسيرها ليس بالمستحيل لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد..
ففي ظل العولمة الغربية التي تشهد اندماجات كونية هائلة تجاوزت المؤسسات الى مستوى الدول متمثلة بالاستسلام والخضوع من قبل دول العالم الثالث بواسطة الحرب او التبيعة والخنوع بواسطة الضغط السياسي والاقتصادي، ويساعد في تمكن الهيمنة الغربية من بسط نفوذها ترحيب الانظمة التي وجدت اصلاً تحت رعاية الغرب والشرق، كيف يرضى الغرب ثورة او حركة تغيير في اي بلدٍ ضد من رعوا بناء نظامه وتاسيس اركانه لخدمة مصالحهم ومطامعهم دون أن يحركوا عملاءهم واساطيلهم ووكلاءهم؟ ان الثورات بكلمة اخرى هي تفكيك لانظمة موجودة، فكيف وقد مضى على بناء هذه الانظمة عقود طويلة من العمالة وصفقات البيع والشراء وتأدية فروض الطاعة؟ كيف لايعمد الغرب وأعوانه وبقايا تركاتهم وانظمتهم الى بث الفوضى ورزع الفتنة في جوانب البلاد كلها؟
الحقيقة أن الامر لايقف عند هذا الحد، فان عقلية المثقف "المغسولة غربياً أو شرقياً" لايمكن الا ان تكون معول هدمٍ في أي جهد وطنيٍ يؤسس في بلادنا، سواء كان عالماً أنه يمارس الهدم أم لا, وان كنتُ ازعم أن اغلب المثقفين الذين يستجيبون لـ "مغسلة الاعلام" هم في الحقيقة من مراهقي البحث العلمي ولو بلغوا من العمر عتياً، وعليهم أن يراجعوا منهجية أحكامهم وتكوينة افكارهم وعصارة اذهانهم، ليصححوا– كما هو في البحوث العلمية- اخطاءهم ولينقحوا بعضاً منها وسيجدون أنهم إما اخذوا على حين غرة، أو ان السيل الاعلامي جرفهم من علو الى بطن وادٍ سحيق، وعليهم أن يعودوا وسيكون العود أحمدُ وافضل من التمادي في انحراف علمي ومنهجي لايقبل منهم ولايرتضى.
واذا كنا نتغنى بوحدة العرب فعلينا أن نشعر بها قبل الكلام، ولنا أن نتحرر من تبعية الثقافة والتقليد الاعمى الذي وقع فيه حتى مثقفينا، عندئذ نتحدث عن فكر حر ومنهج طموح لبناء نظام دولة عربية لاتهتز اركانه عند اول نفثة اعلام غربي، او عند اول مشكلة تعترض التقدم وهي مشكلة تقع ضمن النسق الطبيعي للحياة البشرية.
وان الدور المرتقب من المثقفين ليس وصف المجتمع والوقوف عند هذا الحد، بل سبر اغوار قيم المجتمع وأواصره وامكاناته وتقديم المنهج التطبيقي والعملي لتعزيز الاواصر الاجتماعية وتعزيز القيم الوطنية من خلال خصائص ذلك المجتمع، وبناء الشعور بالاستقلال وتحقيقه، وتقويم الحالات التي تعيق تشييد الجوانب الحضارية فيه، هذا هو الدور المرتقب للمثقف العربي، وليس غير.




[*] كاتب واعلامي عراقي [najmaleessawi97@gmail.com]

No comments:

Post a Comment