Monday, March 7, 2016

الشاعر والناقد الدكتور علي ربيع بعين شاعر


الشاعر والناقد الدكتور علي ربيع*.... في عين شاعر

بقلم: نجم العيساوي

7-3-2016



لَقَدْ قرأت لِشعراءَ متقدمين ومتأخرين، ومنهم من استوقفني نصه لجماله وبراعته، ومنهم لغرابته ودهشته، ومنهم من مررت عليه مروراً إذ لم يشدني أو أنه أعلى من فهمي المتواضع ومستوى شاعريتي البسيط، لكنني عندما أتحدثُ عن الشاعر الدكتور علي ربيع فأنا لا أتحدث عن أي شاعر!

الدكتور علي ربيع ما إن تقرأ له نصا شعريا - وتخيل النص دون اسم الشاعر- إلا وتقول؛ هذا لعمري لَمِن شعر الفحول، أو لأحد أصحاب المعلقات، لعله امرؤ القيس أو طرفة بن العبد او زهير بن ابي سلمى ، أو أنك تظن أنه لشوقي أو حافظ او الجواهري او الرصافي.

لست مبالغا في مديح هذا الرجل، ولا ابتغي - والله يشهد- إلا أن اقول متجردا ما ينبغي أن يقال في زمن يقال لكل (شاعر) شاعر.

الشاعر علي ربيع شاعر بكل ما تعنيه هذه المفردة من معنى، وربما لا أملك ما يملكه أقل شاعر أو أديب من نتاج، لكنني اخال نفسي أعرف وحسب!، فالدكتور علي ربيع عنده ما عنده من أدوات الشعر لغة وبيانا وبلاغة، وميزانا وعروضا وليونة، وصورا وتشبيهات تكاد تجزم معها أن هذا الشاعر الكبير قد لانت له القوافي مثل عجينة يرقُّها كيف يشاء، وانصاعت له المفردات كأنما يغترف من نهر جار أو كأنما هو معجم كتبه العرب الاقحاح، بطبعته الأخيرة، شاعر لايتكلف الصورة الشعرية، تنساب بين حروفه ونصوصه انسياب الماء الزلال العذب في ساقية ملك من الملوك، فجميع نصوصه - التي اطلعت عليها- حتى تلك التي يريد منها نصحا وحكمة فهو يؤتيكها بصور لاتملك أمامها إلا أن تقول؛ ما يصنع هذا الرجل! إنه وأيم الله لشاعر شاعر.

يقول الشاعر الدكتور علي ربيع في قصيدة له بعنوان (حداد وميلاد) يرثي فيه حال الوطن:



أين الرجالُ؟ وأين الفضلُ والأدبُ؟ .........أين الجيوشُ؟ وأين الشّارُ والرتَبُ؟
أين المدافع تلفاها مزمجرة؟ .............. خان المتوّجُ والصعلوك، والحَجَبُ
لهفًا لطفلٍ تُغادي لهوَه كُرَبٌ ........... سحقًا لعرشٍ تُباري دونه خُطَبُ
جُوَّاد فمٍّ فرَواْ بالزّور أزْملة ................ وفي (مضايا) فَرَى أطفالنا السّغَبُ
هل ذي مدامع دارت في محاجركم؟ ..............   بل ذي خناجر راشتها لنا النُّدبُ؟



هنا تجد أن الشاعر علي ربيع لايجد مناصا من أن يرسم صورة شعرية جميلة، تقرب البعيد وتصور الألم، فهو يسائل الطغاة:

هل ذي مدامع دارت في محاجركم؟

ثم يجيب هو عن حقيقة تلك المحاجر وأنها في الحقيقة هي خناجر تقطر دماً وليست محاجر للعين تقطر دمعا.. تصوير فني بليغ، لاياتيه إلا شاعر وشاعر مكين وجسور.

ثم يتساءل مرة أخرى:

هل تحملون قلوبًا في جوانحكم؟

ياتي الجواب من الشاعر نفسه:

بل ذي مقاصل ساقتنا لها النِّوَبُ؟

وهذا الأسلوب يكثر في نصوص الشاعر، ثم يذهب إلى ندب أدعياء العروبة، ويبين عن حقيقتهم التي لايجرؤ الوعاظ والخطباء أن يبينوها، فيقول:



كل السيوف نواصيها لها شُطُبٌ ........... سيف العروبة عارٌ نصلُه خشَبُ


وحتى وهو يرثي رثاء أستاذه فضيلة الأستاذ الدكتور محمد المختار المهدي ـــــ الأستاذ بجامعة الأزهر(رحمه الله)، يلتزم الشاعر النصية المتكاملة، يقول:

رثيتُك يوم بِنْتَ إلى المعالي ** وذقتُ الصّاب بعدك في وصالي

شَجانِي الدّهر بالحسْراتِ تَتْرى **على قلبي فتُمعنُ في نكالي...

تُنازلني مدى العمر المنايا** وسفحُ القلب ساحاتُ النّزال



فبمجرد أن تقرأ له البيت الثالث - ويبدو أن الشاعر اراده ليري القاريء مشهدا ما كان ليراه لولا هذه الصياغة، فكان تعبيره (وسفحُ القلب ساحاتُ النّزال) استعراضا لدواخل الشاعر وإلى اي مدى هو قد حزن على استاذه ومعلمه، بحيث كأنما هو نزال، وهو استعارة عن الجوى والالم.

فهذه المقدرة اللغوية والشعرية لدى الدكتور علي ربيع لاتقتصر على الشعر العمودي، فهو يكتب التفعيلة بالمُكنة ذاتها، ويستخدم الأدوات البلاغية بمهارة وجمال، واقول يستخدمها واني لاعتذر فهي قد اضحت جزءً من ملكة الشاعر الحاضرة التي لاتغيب، فيقول في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

نبأٌ سرَى .. بين الورى
فتأرّجت عُطُر السّرورْ
بانت سُعادُ...
فما أرى قمرًا بدا، عِقْدَ السماء كأحمدا
وعلاه نورْ
وُلد الهدى...
يا سيّدًا جَمع المحاسنَ والحبُورْ
عبْرَ الأوابدِ والدّهورْ
نَسَمُ العطُورْ
عينُ القريرْ... فجر الضميرْ ... زاد الأسيرْ... وعصا الكسيرْ
وهداية الكون الضريرْ
في وسْط أحلاك الدّجى
عذبُ الجهارةِ والنّجَى
خيرُ النّهايةِ والبِدَا
يا أحمدَا
يا نورَ بدرِ التّمّ أَشْرقَ من ثَنيّاتِ الوداعْ
قد مدّ للصفْحِ الجميلِ وللتّقَى ألفي ذراعْ
وبلا انقطاعْ
********

أمام هذا البحر الشعري لايمكن إلا تطيل الوقوف عند شواطئه، متنعما بجمال الغروب والشروق، إذ أنه غزير المعاني والمفردات والمباني، ولايجد كلفة في أن يصور لك المشاهد كلها، كانت مشاهد حب وشوق، أو مشاهد حرب وبلاء..



ويكمل الشاعر في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ولد الهدى....
أصواتُ وجْبْ
ويلوح أبْرهة الجديدُ وراءه فيلٌ ودُبّْ
وبنو اللّقيطة أنشؤوا حول المدينة غوْرَ جُبّْ
وأبو لهبْ
في الفرس من إيوانِه جَمَع الحطبْ
أين الرّماةُ على أُحُدْ
سكنُوا اللُّحُدْ
....
للبيت ربْ .. ما ذاك رَيْبْ
لكنْ شِياهي في دمشقَ وفي حلَبْ
باتت وليس لهنّ ربْ
وبأيِّ ذنبْ
وُئِدت براءة بدْرِهمْ بوِهادِ نَجْدْ
وحِدَاقُهمْ مشدودةٌ نحوَ السمَا جَفْنٌ وهُدْبْ
وسُنُونَ دأْبْ
رقدوا على أرضِ الوَصبْ
حُمِلوا على كتفِ النّصبْ
نادواْ فجاوبهم نعيبُ البومِ أو ذئبٌ وضبّْ
يقضي الأربْ.. من شقِّ أُخدودٍ وتشريدٍ وصَلْبْ
جاعُوا فلم يقريهمُ غيرُ السَّغبْ
شُقَّت حناجرهمْ فروّتها السُّرُبْ
طرقُوا فدعّتهُمْ عن الأبواب أسياطُ الحُجُبْ



وهل يكفي أن نقول عنه أنه شاعر وحسب، بل هو شاعر من الطراز الأول في السبك والمعنى، واستعارة الصور والتشبيهات، وهو من الشعراء المعاصرين الأُول الذين يجيدون مخاطبة الأذواق المتباينة، وهي مقدرة ليست بالهين امتلاكها.

هذا لا يكفي.. فالدكتور علي ربيع ناقد بصير، وله مقالات تحليلية نقدية برؤية شاعر كبير، ليس كبعض النقاد، لايتوقف إلا على العثرات، فهو يأتي النص من نفسية الشاعر، ومن عنوان النص، ويسوغ للشاعر - مهما كان- هذه الحدود الشعرية التي رسم بها نصه، ومن جميل أسلوبه أنه حين يذكر محاسن النصِّ، تعرف من خلال أسلوبه أنه تغاضى عن أمور يسهل على صاحب النص معرفتها، والدكتور علي ربيع إذ يتغاضى ليس لعدم إدراكه لها، وإنما ليقينه أن الشعر أدوات ومعان، فليس كل شاعر يجمع بين الامرين بالقدر ذاته لكل منهما، فتجد شاعراً مكينا من أدوات الشعر، لكنه في صوغ المعاني أقل، وقد تجد عكس ذلك، فالناقد الدكتور علي ربيع يرى أن الفطنة الى المعاني بالإضافة إلى كونها تأتي من المراس والقراءة والغوص في تراث الأولين والآخرين، يرى فيها نوعا من (الاهتداء) وهذا الاهتداء الى المعنى والصورة يتبع نفسية الشاعر عند كتابة النص، ولذا تجد للشاعر نصوصاً مختلفة، فنص عذب فرات، ونص كأنما ملح أجاج.

لكنه يؤكد على نقطة هامة، وهي حرص الأديب على تحديث فنه، فيقول: "يبقى الأديب الحريص على تحديث فنه كدولاب لا يكفّ عن الدوران، يمتح من بحار المبدعين المشهود لهم بالأصالة والتجديد؛ ليوظف ما يراه مناسبًا في تجاربه التي يتغيّا إبداعها ونشرها."

ويذكر الدكتور علي ربيع في مقالاته النقديه أن الهندسة الإيقاعية للنص تأتي من الخبرة والمراس والموهبة الصادقة، وهذه العناصر الثلاثة يؤمن بها الناقد بأنها مناص النص المتكامل، وقد تتقارب نسب توافرها، وقد تتباين، وكلما توافرت كان النص مليئا بالمدهش والصور الفنية الجميلة.

ويشير الدكتور علي ربيع أن الشاعر يبلغ قمة رفيعة فى تصوير اندفاعاته التى تكتسح كل العقبات من خلال استثماره لكل طاقات لغته التصويرية الخارقة ومقدرته الصرفية، حتى ليكاد القارئ يسمع عصف هذه الاندفاعة ويحس حرارتها.

أقول أنا لم أتحدث عن شخصية الدكتور علي ربيع إلا بنزر يسير، إذ يستحق أن تسطر فيه المقالات الطوال بل وتدرس نصوصه في مناهج الأدب والنصوص في مدارسنا، فهي والله أحرى من كثير لايملك ما يملكه علي ربيع، بالإضافة إلى كونه شخصية قيمية تنتمي للأمة انتماءً حقيقياً، فهي لايقول الشعر لمجرد أن يقوله، انما هو شعور مؤمن، وحروف يعيش هموم أمته، ويصورها بصدق.



هاكم هذه القصيدة الجميلة له والتي يتحدث فيها الشاعر والناقد علي ربيع



موسى العرب ، وموسى بني إسرائيل

****************

أَصاحَ البينُ.. واشتطّ المَزارُ؟ ...... وغَام الدّربُ.. وانْتُزِفَ القَرارُ

وجافاك الأباعدُ والأدانِي ...... فــلا عُـــــرْبٌ تَحِــنُّ ولا تَتَارُ

يصبّ الجارُ في أذنيه ...... وقرًا فيَصْلِمها التضرّعُ والجُؤَارُ

فيَهذِي بالفِرَى ويغضـْ ...... ــضُ طرفًا كخفّاشٍ يراهِقُــــه النّـــهارُ

تَواثَبَ بالإدانة بعد شَجْبٍ..... كوَثْبِ الخِبِّ ســــاورَه الفِرارُ

أعيروني ثيابًا.. لم يُجيبوا.... فدثّرني الصقيـــــعُ أو الغُبَارُ

ترى الجبناء عُريًا في ثيابٍ.... فلا رَتَقَ الخِصافُ ولا الزِّرارُ

فليس الثوبُ أسمالًا وطِمرًا.... بل الثوبُ المحامدُ والنُّجَارُ

طرَقتُ أُناشِد اللؤماءَ قوتًا .... فدعّتني المـــوائدُ والدِّيارُ

وصدتني المدائنُ عن مداها.... ووحشًا أفغرت فاها القفارُ

عجبت!.. الجَفنُ يُغرقني دموعًا.... وضِلْعُ الصّدرِ يحرقها الأُوارُ

كأنّ الكون يَخْشَى نارَ غيظي.... فيحذرُ أن يوجِّجَه الشَّرَارُ

فيُهميك الثلـــــوجَ أو الرّزايا.... وتُدميكَ الظعائنُ والصغارُ

فإمّا خُطّتا غَرقٍ وحرقٍ ....فبئس الغِبُّ.. أعذبُه مرارُ!!

وإمّا أن تتيه علي الصحاري... وإمّا أن يُكَفِّنَك الـــدّمــــارُ

فزعت لأهون الأمرين شرًّا.... على خَدّي تهاتنت الغِزارُ

مَخْرتُ بمركبي لُججَ الفيافي.... وبسم الله ترسو أو تُدارُ

وخُضْتُ بِمفَئدِي حُججَ القوافي..... تباكيني القصائدُ والقِصارُ

فنبض القلب كان لها شراعًا.... ودمع العـــــين تزجيها بحارُ

كموسى بعد مدين إذ سراها..... فـــــوافته النّبــــــوة واليَسارُ

وليس إلى النبوة كنت أسري.... وهل بعد النبيّ لها يُسَارُ؟!

فما بالي يئزّ البردُ حولي؟..... كصدر المهر أغراه النِّفار؟

ويشتدُّ النّحيب ولا مجيبٌ.... وتغشانِي المساغبُ والفِقارُ؟

دعا موسى الإلهُ بظلّ طُورٍ.... وذابَ على ذُرا صوتي الطِّوارُ

ويخلــــع نعلَـــه للقاء ربٍّ ...... ويخلع عزّتي خِبٌّ خُوَارُ

ويؤنسه على مرآه نورٌ .....ويَفلِقُ في مَرايايَ العِثَارُ

وموسى وَاثَب الرجّافَ ضَربًا ...... وجَوْزي فيه..رفقٌ واصطبارُ

فَشُقَّ الماءُ من حَوليه قَصرًا ..... كأنّ عُبابَ لُجته جِــــدارُ

فما بالي استحال البَحرُ رَمْسًا.... ومقبرتي الطّحالبُ والغَضَارُ

وكم بالبحر فرعونٍ وموسى ..... كما فيـــــــه اللالئُ والمَحَارُ!!

على أنّ البلاءَ دليلُ صدقٍ.... أُعـِـــــزَّ به النبيّــــون الكــبارُ

بناتُ الدهر تَخْطِبُنا جميعًا.... وما يُرجَى نكاحٌ أو صِهارُ

فتُرْغِمنَا السِّفاحَ بلا فِراقٍ ..... وعُرسُ العُمْرِ كان لها مِهارُ

فمن يُصبِحْ بسَعْد يبكِ ليلًا .... ومن يسعد بليل فالبِكَارُ

ترى السُّوَّاسَ كالفِرقين صُفَّا .... فكافورٌ يُرى أو شَهريارُ

فما من بينهم صُلّاحُ دين .... ولا قُطُزٌ يكون ولا عِمَارُ


وأخلاقُ العباد على اختلافٍ ..... زئيرٌ.. أو عواءٌ.. أو خُــــــوَارُ

فلا تُلقِ الرجاءَ على عبيدٍ .... سِيَانَ الخائنون ومن أجاروا

لنا ربٌ تسامى في جلال .... على رحماته تسري السّفارُ

--------------------
* الدكتور علي ربيع: أكاديمي وشاعر وناقد مصري... دكتوراه في الأدب والنقد من جامعة الأزهر