Tuesday, January 7, 2020

مواقع التواصل الاجتماعي والهجين اللغوي


مواقع التواصل الاجتماعي والهجين اللغوي
نجم العيساوي                                           كانون الثاني 2020

تعد الممارسة اللغوية جزءاً من تشكيلة البيئة الثقافية التي يعيشها الفرد، ولاشك أن البيئة الحالية بشكل عام تحتضن العديد من العناصر الهجينة وأبرزها اللغة المحكية، وبالتالي فهي بيئة جاذبة لأي تداخل لغوي لغياب الوزن المثالي للغة الأصيلة، وعليه فإن المجموعات الطلابية عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهي جزء من المجموعات المجتمعية التواصلية الأخرى تشهد استخداماً مطرداً للهجين اللغوي لكون مواقع التواصل الاجتماعي بيئة جامعة لكل اللغات واللهجات، وغالباً ما يلجأ المستخدمون إلى لغاتهم أو لهجاتهم المحكية، ويؤدي هذا التزاوج أو التداخل بين عدة لهجات - التي هي بالاصل هجينة- إلى ولادة مفردات هجينة أخرى، تغذيها المجموعات وروابطها التواصلية والرغبات المشتركة وتنوع الخلفيات اللغوية والثقافية، والاندفاع الى التقليد والشهرة وركوب الموجة، كلها تقف وراء انتشار هذه اللهجة في ظل غياب اللغة الأصيلة وتخلي المجتمع عموماً عن ممارستها، مما يجعل المفردات الدخيلة سهلة الاندماج وسهلة التشكيل والتصنيع.

ولا ريب أن مجموعة عوامل أسهمت بدرجة ما في تسهيل ظهور الهجين اللغوي، ومن ذلك ما يتيحه فضاء الشبكة من اتصال مجتمعي ثقافي متعدد ومتنوع ومختلف في كثير من الأحيان، سواء على مستوى اللغة أو الثقافة أو السمات الشخصية، فضلاً عن طبيعة بعض المنصات الاتصالية التي تتطلب الايجاز  في النشر والتعبير، ومنها أحياناً محدودية عدد حروف المنشور أو  كلماته، كما في تويتر  وأنستغرام وسناب تشات وغيرها، فيلجأ المستخدم إلى الايجاز وأحيانا يستخدم الرموز أو جزء من الكلمة أو أن يلجأ الى مختصرات هو يوجدها أو غيره يغلب عليها الاستخدام فتأخذ مداها  في الانتشار فتضاف إلى المفردات الهجينة لفظا كتابة.. والسبب الآخر وراء ذلك هو تنوع الأفراد ضمن المجموعة الواحدة، واختلاف ثقافاتهم ودولهم ولهجاتهم مما يؤدي إلى إيجاد مزيج مشترك لبعض المفردات أو تصنيعها عبر تواصل مستمر بينهم، ويمكن إضافة سبب ثالث وهو أن هذا السياق معمول به في اللغات الأجنبية التي تتيح إمكانية الاختصار في الكلمة مع بقاء مدلولها المعنوي، كما في العبارة الإنجليزية (You are very good) والتي قد تكتب في صفحات التواصل الاجتماعي بطريقة مختصرة كما يلي (u r v good) ، وعلى مستوى اللفظ (App) وتعني (Application)، وكلمة (ATM) اختصارا لـ (Automatic Teller Machine) وغيرها الكثير، لكن هذه تتيحها اللغة الإنكليزية، ولاتتيحها لغات أخرى إلا بحدود معينة، فتأثر المجموعات الطلابية بهذا المنحى واضح جدا في استخداماتهم للغة العربية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن التأثير النسبي لبعض العمالات الوافدة في بعض دولنا العربية.
إن الفوضى اللغوية في التواصل الاجتماعي هي جزء من فوضى الهوية التي تعيشها المجتمعات العربية، بسبب تدهور ظروفهم السياسية والاجتماعية والثقافية، وهذا بكل تأكيد يسري إلى جميع مفاصل الحياة المجتمعية والقيمية، ومن ذلك الفوضى اللغوية في التواصل الاجتماعي وما يمكن أن تسببه من مزيد من الابتعاد عن اللغة الأم والقيم الجمالية والأخلاقية التي تتضمنها، لكون اللغة تمثل رصيداً قيمياً أكثر منه رصيداً ثقافياً، فهي تضيف إلى الانسان والمجتمع جمالها وآدابها وحتى اساليبها التواصلية، فلاشك أن أعظم مخاطر هذه الفوضى هو الاستغراق في الانسلاخ من اللغة الأم وبالتالي التفريط بأهم قيمة مجتمعية يمكن أن تحفظ للإنسان هويته وثقافته ومكانته. بالإضافة إلى أن التمادي في اعتماد الهجين اللغوي يهيء لجيل ومجتمع لا علاقة له بهويته أو ثقافته، وسيكون أقرب ما يكون عالة على الآخرين، يتقمص ثقافاتهم ولهجاتهم بشكل عشوائي تضيع معه الاصالة والحضارة، ولو كان الأمر بقدر الاستفادة والإطلاع والتواصل ونقل العلوم والخبرات لكان هذا الأمر حسناً، لكن الهجين اللغوي ثغرة ثقافية قد تؤتى منها الأمة وقيمها.

وفيما يتعلق بطبيعة العلاقة اللغوية بين المستخدم و أشكال اللغة التي يقرؤها و لا ينتجها ففي أحسن الأحوال يمكن القول أن المتصفحين العابرين أشبه بالمتلقي السلبي الذي يتلقى ما يقذفه الآخرون، دون أن يقدم هو رصيداً في العطاء المثالي أو القيمي، فيتسلم المفردات أو يمر عليها حتى اذا طال الأمد، استمرأها واصبحت جزءا من ثقافته، لايستطيع أن ينفك منها. ولا نختلف فيما اذا كانت المنتجات اللغوية هي من مشتقات اللغة الاصيلة وتحمل في دلالتها البنيوية والمعنوية إضافة إيجابية للفكر الإنساني أو مسيرته العلمية أن ذلك من حسنات التواصل والتصفح حتى لو لم يكن بعض المتصفحين هم من ينتجونها، لان الفضاء العمومي ساحة مفتوحة لكثير، ومنهم من ذوي الاختصاص والخبرة، الذي يمكن أن يفيض على الآخرين من علمه وفهمه ونتاجه اللغوي أو العلمي الشيء الكثير. فالعلاقة اللغوية بين المتصفح للمجموعة وأشكال اللغة التي يقرؤونها ولاينتجونها هي علاقة نسبية، فقد تكون علاقة عكسية في حال كون اللغة المنشورة هجيناً محكياً مخلوطاً لايحمل أية إضافة نوعية لثقافة المتصفح أو وعيه، بينما يمكن أن تكون العلاقة إيجابية في حال كانت اللغة المنتجة تتبع لباب لغوي من أبواب اللغة ومشتقاتها ومرونتها، وكان القائمون بالاتصال من الراغبين بالفائدة والانتفاع.

* هذا المقال كان عبارة عن حوار أجرته معنا جريدة الأمة الجزائرية (الورقية)

الإعلام وفاعليته في تعزيز قيم المواطنة

الإعلام وفاعليته في تعزيز قيم المواطنة.. الواقع والطموح

نجم العيساوي/  كانون الثاني 2020
أصبح الإعلام جزءًا لايتجزأ من بيئة الإنسان، فهو يسهم في تشكيل مدركاته وثقافته بنسبة كبيرة، بل لعله يضاهي في تأثيره الأسرة والمدرسة والقبيلة إن لم يسبقها، ومن جملة ما يؤثر الإعلام في تشكيله لدى الفرد والمجتمع هي ثقافة قبول الآخر وتعزيز قيم الوحدة الإنسانية والوطنية التي تجمع ألوان المجتمع في لوحة فنية جميلة، تعبر عن حالة التنوع والتعدد بأسلوب إيجابي وهادف، وأن هذا التعدد هو ضرورة لتشكيل مجتمع حقيقي وسوي، لأن وجود مجتمع متشابه في كل شيء، ويتفق على كل شيء، هو ضرب من المحال ونوع من الخيال، وإن حصل افتراضاً فلن يكون فيه للحياة معنى، لأن طبيعة الفطرة الإنسانية تقوم على التنوع إلا أنه التنوع المرغوب والبنّاء.
وفي الوقت ذاته فإن الإعلام وما يحمله من أجندات ومنظومات فكرية وقدرات بشرية وإمكانات مادية، بإمكانه هدم وتقويض القيم الإيجابية في المجتمعات، بل وغرس السلبيات وإضعاف أواصر التعايش بين الناس، وتحويل هذا التنوع إلى تشرذم وفرقة وخصومة، وهذا الأمران -البناء والهدم- حاصلان في البيئة الإعلامية في مجتمعاتنا، وأخشى أن أؤكد أن ما يهدمه الإعلام اليوم ويقوضه في المجتمع أكثر مما يبنيه ويقيمه.

وفيما يخص المعالجة الإعلامية لموضوعات المواطنة في الواقع العربي، فإن الحقيقة هي شيء مؤسف، ففي بعض أجندات وسائل الإعلام هناك نقر على الخلاف والتفرق، والتركيز على زيادة رقعة الاختلاف وإحالة التنوع الإيجابي إلى تشتت عدائي، وإثارة العرقيات والعصبيات، ومعظم وسائل الإعلام التي تعمل على ذلك فإنما تعمل ذلك لأحد أمرين، إما لعدم إدراكها ووعيها خطورة ما تصنع على الحاضر والمستقبل، فهي أشبه ببوق يعمل لكل من يريد أن يعبر عن رسالته، فهي بذلك وعاء يسكب فيه ما يريد الآخرون وتصبه في المجتمع دون وعي وإدراك، أو أن بعضها تتحرك وفق أجندة سياسية وفكرية تسعى لفرضها في المجتمع بطريقة أحادية، وتعد ذلك جزءا من نجاحها في فرض أجندتها ورسالتها.
وإلى جانب ذلك - والحق يقال، هناك وسائل إعلام ما تزال تقدم رسالة إعلامية هادفة تقوم على تعزيز قيم المواطنة في المجتمع وتزيد من رصيد التعايش السلمي وتعمل على ترسيخ مفهوم الوحدة والتكافل والتكامل بين جميع أفراد المجتمع، وتحرص على بناء ثقافة قبول الآخر، بل والسير معاً من أجل مجتمع قوي وموحد ورصين. ومهما كانت نسبة الفريقين إلا أن واقعنا العربي ونتيجة لعوامل أخرى، تكون نسبة السلبية في بعض وسائل الإعلام فيه أكثر اتضاحاً، إلا أن التعويل يكون على القيم المجتمعية والعقول الواعية التي تميز بين الأدائين وتحلل الرسالتين، وتأخذ بالجيد من اجل مستقبل الوطن، وطموحات شبابه وأجياله.

ومن أجل تحسين المنظومة الإعلامية لابد من ميثاق شرف وطني، يتعاهد عليه الشرفاء القائمون على وسائل الإعلام، واستحسن أن ينبثق هذا الميثاق من السلطة التشريعية أو القضائية في الدولة ليضمن منظومة إعلامية تؤازر الشعب وتحرص على وحدته وتكامله وتعايشه، كما أرى ضرورة أن يتلقى القائمون على وسائل الإعلام دورات متخصصة وورش جادة في بناء منظومة القيم والحفاظ عليها، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة والضيقة، والتحذير من التشرذم، والتفرق، والانسياق وراء موضات الإعلام التي يعج بها فضاؤنا والقائمة على زرع الخصومات وتفتيت وحدة المجتمعات، لمجرد أن يقال عن فلان إعلامي لايخاف، أو وسيلة إعلامية ذات صوت عال، فالحق أن يكون الإعلامي صوتاً لايخاف من الحقيقة ويتبناها، والوسيلة الإعلامية صوت من لاصوت له، وديواناً لكل الناس، تمثلهم في طموحاتهم ومعاناتهم والدفاع عنهم بموضوعية ونزاهة وشرف. والحذر الحذر من أن نتجرف وسائلنا الإعلامية إلى مسار الهدم لأن الهدم الذي لايستغرق دقائق معدودة في وسيلة إعلامية، يتطلب سنين طويلة لإعادة البناء وردم الفجوات، وإصلاح العيوب.


* هذا المقال كقدم لجريدة الأمة الجزائرية (الورقية)