الإعلام وفاعليته في تعزيز قيم المواطنة.. الواقع والطموح
نجم العيساوي/ كانون الثاني 2020
أصبح الإعلام جزءًا لايتجزأ من بيئة
الإنسان، فهو يسهم في تشكيل مدركاته وثقافته بنسبة كبيرة، بل لعله يضاهي في تأثيره
الأسرة والمدرسة والقبيلة إن لم يسبقها، ومن جملة ما يؤثر الإعلام في تشكيله لدى
الفرد والمجتمع هي ثقافة قبول الآخر وتعزيز قيم الوحدة الإنسانية والوطنية التي
تجمع ألوان المجتمع في لوحة فنية جميلة، تعبر عن حالة التنوع والتعدد بأسلوب
إيجابي وهادف، وأن هذا التعدد هو ضرورة لتشكيل مجتمع حقيقي وسوي، لأن وجود مجتمع
متشابه في كل شيء، ويتفق على كل شيء، هو ضرب من المحال ونوع من الخيال، وإن حصل
افتراضاً فلن يكون فيه للحياة معنى، لأن طبيعة الفطرة الإنسانية تقوم على التنوع إلا
أنه التنوع المرغوب والبنّاء.
وفي الوقت ذاته فإن الإعلام وما يحمله
من أجندات ومنظومات فكرية وقدرات بشرية وإمكانات مادية، بإمكانه هدم وتقويض القيم
الإيجابية في المجتمعات، بل وغرس السلبيات وإضعاف أواصر التعايش بين الناس، وتحويل
هذا التنوع إلى تشرذم وفرقة وخصومة، وهذا الأمران -البناء والهدم- حاصلان في البيئة
الإعلامية في مجتمعاتنا، وأخشى أن أؤكد أن ما يهدمه الإعلام اليوم ويقوضه في
المجتمع أكثر مما يبنيه ويقيمه.
وفيما يخص المعالجة الإعلامية لموضوعات
المواطنة في الواقع العربي، فإن الحقيقة هي شيء مؤسف، ففي بعض أجندات وسائل
الإعلام هناك نقر على الخلاف والتفرق، والتركيز على زيادة رقعة الاختلاف وإحالة
التنوع الإيجابي إلى تشتت عدائي، وإثارة العرقيات والعصبيات، ومعظم وسائل الإعلام
التي تعمل على ذلك فإنما تعمل ذلك لأحد أمرين، إما لعدم إدراكها ووعيها خطورة ما
تصنع على الحاضر والمستقبل، فهي أشبه ببوق يعمل لكل من يريد أن يعبر عن رسالته،
فهي بذلك وعاء يسكب فيه ما يريد الآخرون وتصبه في المجتمع دون وعي وإدراك، أو أن
بعضها تتحرك وفق أجندة سياسية وفكرية تسعى لفرضها في المجتمع بطريقة أحادية، وتعد
ذلك جزءا من نجاحها في فرض أجندتها ورسالتها.
وإلى جانب ذلك - والحق يقال، هناك
وسائل إعلام ما تزال تقدم رسالة إعلامية هادفة تقوم على تعزيز قيم المواطنة في
المجتمع وتزيد من رصيد التعايش السلمي وتعمل على ترسيخ مفهوم الوحدة والتكافل
والتكامل بين جميع أفراد المجتمع، وتحرص على بناء ثقافة قبول الآخر، بل والسير معاً من أجل مجتمع قوي وموحد
ورصين. ومهما كانت نسبة الفريقين إلا أن واقعنا العربي ونتيجة لعوامل أخرى، تكون
نسبة السلبية في بعض وسائل الإعلام فيه أكثر اتضاحاً، إلا أن التعويل يكون على
القيم المجتمعية والعقول الواعية التي تميز بين الأدائين وتحلل الرسالتين، وتأخذ
بالجيد من اجل مستقبل الوطن، وطموحات شبابه وأجياله.
ومن أجل تحسين المنظومة الإعلامية لابد
من ميثاق شرف وطني، يتعاهد عليه الشرفاء القائمون على وسائل الإعلام، واستحسن أن
ينبثق هذا الميثاق من السلطة التشريعية أو القضائية في الدولة ليضمن منظومة
إعلامية تؤازر الشعب وتحرص على وحدته وتكامله وتعايشه، كما أرى ضرورة أن يتلقى
القائمون على وسائل الإعلام دورات متخصصة وورش جادة في بناء منظومة القيم والحفاظ
عليها، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة والضيقة، والتحذير من التشرذم،
والتفرق، والانسياق وراء موضات الإعلام التي يعج بها فضاؤنا والقائمة على زرع
الخصومات وتفتيت وحدة المجتمعات، لمجرد أن يقال عن فلان إعلامي لايخاف، أو وسيلة
إعلامية ذات صوت عال، فالحق أن يكون الإعلامي صوتاً لايخاف من الحقيقة ويتبناها، والوسيلة
الإعلامية صوت من لاصوت له، وديواناً لكل الناس، تمثلهم في طموحاتهم ومعاناتهم
والدفاع عنهم بموضوعية ونزاهة وشرف. والحذر الحذر من أن نتجرف وسائلنا الإعلامية
إلى مسار الهدم لأن الهدم الذي لايستغرق دقائق معدودة في وسيلة إعلامية، يتطلب
سنين طويلة لإعادة البناء وردم الفجوات، وإصلاح العيوب.
* هذا المقال كقدم لجريدة الأمة الجزائرية (الورقية)
No comments:
Post a Comment