Thursday, June 19, 2025

فواعل الصراع في الشرق الأوسط ... والدور الدولي والعربي


لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط بؤرة للتوترات والصراعات، ومع كل تصعيد جديد بين إيران وإسرائيل، تتجه الأنظار نحو ميزان القوى المعقد الذي يحكم هذه العلاقة، وتبرز التساؤلات حول الدور الذي تلعبه القوى الكبرى في تشكيل مسار هذا الصراع المحوري. إن المواجهة الحالية، سواء كانت مباشرة أو بالوكالة، ليست مجرد اشتباك ثنائي، بل هي جزء من لعبة شطرنج عالمية تتغير فيها التحالفات وتتبدل فيها الأوراق.
تُعد إيران وإسرائيل قوتين إقليميتين بارزتين، تمتلك كل منهما قدرات عسكرية واستخباراتية كبيرة، وطموحات جيوسياسية متضاربة. فمن جهة، تسعى إيران إلى بسط نفوذها في المنطقة عبر شبكة من الوكلاء والجماعات المسلحة، وتطوير برنامجها النووي الذي يثير قلقاً دولياً وإقليمياً. ومن جهة أخرى، ترى إسرائيل في إيران تهديداً وجودياً لأمنها القومي، وتسعى جاهدة لمنعها من امتلاك أسلحة نووية أو تعزيز قدراتها العسكرية التي يمكن أن تستهدفها. هذا التنافس المحتدم يغذي دوامة من التصعيد والانتقام، ويدفع بالمنطقة نحو حافة الهاوية بشكل متكرر.
لكن الصورة لا تكتمل دون إدراك الدور المحوري للقوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والصين، والدول الأوروبية الكبرى. لكل من هذه القوى مصالحها الخاصة في المنطقة، وتسعى إلى حماية نفوذها وتأمين مصادر الطاقة، ومكافحة الإرهاب، أو حتى مجرد الحفاظ على استقرار هش يخدم مصالحها الاستراتيجية.
في هذا السياق، تبرز وجهة نظر مفادها أن الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان بشكل حثيث إلى تغيير "وجه الشرق الأوسط". فبالنسبة للولايات المتحدة، يتمثل ذلك في إعادة ترتيب التحالفات، وتعزيز نفوذها لمواجهة النفوذ المتنامي لخصومها مثل روسيا والصين، وضمان أمن حلفائها التقليديين، وتحقيق استقرار إقليمي يخدم مصالحها على المدى الطويل، وإن كان ذلك على حساب توازنات قائمة. أما إسرائيل، فتسعى من جانبها إلى إعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي لضمان أمنها وتفوقها الاستراتيجي، عبر احتواء إيران وتقليم أظافر وكلائها، وتعزيز علاقاتها مع دول عربية معتدلة، بل ودمج نفسها بشكل أكبر في المنظومة الإقليمية الجديدة التي تتشكل. هذه الرؤية المشتركة لتغيير المشهد الإقليمي هي محرك أساسي لكثير من التحركات والتوترات التي نشهدها.
تاريخياً، كانت الولايات المتحدة الداعم الأكبر لإسرائيل، وتوفر لها الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي، مما يعزز من موقفها التفاوضي وقدرتها على الردع، ويمنحها هامشاً واسعاً للمناورة في تحقيق أهدافها الإقليمية. وفي المقابل، شهدنا تقارباً إيرانياً روسياً وصينياً في السنوات الأخيرة، خاصة في ظل العقوبات الغربية المفروضة على طهران. تستفيد إيران من الدعم الروسي والصيني على المستويات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، مما يمكنها من الصمود أمام الضغوط الغربية ومواصلة سياساتها الإقليمية، التي تراها أمريكا وإسرائيل عائقاً أمام رؤيتهما الجديدة للمنطقة.

إن أخطر سيناريو يتهدد المنطقة، في ظل استمرار هذا الصراع وتداخل المصالح، هو الانزلاق نحو حرب إقليمية شاملة. هذا الاحتمال ليس مجرد تخوف نظري، بل هو شبح يلوح في الأفق مع كل تصعيد بين طهران وتل أبيب. فسيناريو كهذا لن يقتصر على المواجهة بين الطرفين الرئيسيين، بل سيجر معه حكماً أطرافاً إقليمية ودولية أخرى، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. تخيلوا معي تداعيات مثل هذا الصراع: دمار واسع النطاق للبنية التحتية، موجات نزوح ولجوء غير مسبوقة، اضطرابات اقتصادية عالمية بفعل ارتفاع أسعار النفط وتعطل سلاسل الإمداد، وتفاقم أزمات إنسانية لا حصر لها. قد تتطور المواجهة لتشمل صواريخ بعيدة المدى، وهجمات سيبرانية، وحروب وكالة في عدة دول، مما يحول المنطقة برمتها إلى ساحة حريق كبرى. في هذا السيناريو المظلم، ستكون الخسائر فادحة للجميع، ولن يخرج منها رابح حقيقي، بل مجرد أطراف أقل خسارة في مشهد من الخراب والدمار يغير وجه الشرق الأوسط ليس للأفضل، بل للأسوأ بكثير.

على النقيض من سيناريوهات التصعيد، يظل أفضل الاحتمالات هو التوصل إلى مسار دبلوماسي مستدام يجنب المنطقة ويلات الحرب. هذا لا يعني بالضرورة حلاً سحرياً لكافة النزاعات، بل هو بداية لعملية متعددة الأطراف، تشارك فيها القوى الإقليمية والدولية بجدية لإدارة التوترات وتفكيك الأزمات.

يبقى السؤال الأهم، أين يقف الدور العربي في هذا الصراع المتفاقم؟ وهل يمكن أن نترقب دوراً عربياً أكثر فاعلية، يتجاوز الترقب ليصبح مبادراً؟ تاريخياً، تبنت الدول العربية مواقف متباينة تجاه هذا الصراع، تراوحت بين الرفض القاطع لأي تطبيع مع إسرائيل، إلى تبني سياسات تقارب معها في مواجهة التهديد الإيراني المشترك، مروراً بمحاولات الوساطة وتهدئة التوترات.
في ظل التصعيد الأخير، تجد الدول العربية نفسها أمام تحدٍ كبير. فمن جهة، لا يمكنها أن تكون بمعزل عن تداعيات أي انفجار إقليمي، فالأمن القومي لمعظم هذه الدول يرتبط بشكل وثيق باستقرار المنطقة. من جهة أخرى، المصالح العربية ليست واحدة؛ فبعض الدول لديها خشية مباشرة من المشروع الإيراني وتمدد نفوذ وكلائه، بينما يرى البعض الآخر في القضية الفلسطينية محور الصراع، ويجد صعوبة في التوافق على أي سياسات لا تراعي هذه الأولوية.
على الرغم من هذه التعقيدات، هناك تحركات عربية نشطة تهدف إلى احتواء التصعيد وتقليل المخاطر. شهدنا جهوداً دبلوماسية من قبل بعض الدول العربية، سواء بشكل منفرد أو جماعي، للوساطة بين الأطراف المتصارعة والدعوة إلى ضبط النفس. هذه الجهود تأتي من إدراك أن المنطقة لا تحتمل المزيد من الحروب، وأن تداعيات أي صراع شامل ستكون كارثية على الجميع، اقتصادياً وإنسانياً.
المأمول هو أن تتمكن الدول العربية من صياغة رؤية موحدة لأمنها الإقليمي، تتجاوز الانقسامات وتأخذ في الحسبان مصالح شعوبها. هذا الدور يمكن أن يتجلى في:
* الدفع نحو الحلول الدبلوماسية: استخدام الثقل الدبلوماسي العربي للضغط على الأطراف الدولية والإقليمية للعودة إلى طاولة المفاوضات، سواء بشأن الملف النووي الإيراني أو قضايا النفوذ الإقليمي.
* بناء جبهة عربية متماسكة: تنسيق المواقف والسياسات لتعزيز القدرة على التفاوض مع القوى الكبرى، وحماية المصالح العربية في أي ترتيبات إقليمية جديدة.
* تخفيف التوترات الإقليمية: العمل على خفض التصعيد في مناطق النزاع التي تشهد صراعات بالوكالة، والمساهمة في حل الأزمات الداخلية التي تستغلها القوى الإقليمية لمد نفوذها.
إن ميزان القوى بين إيران وإسرائيل ليس ثابتاً، بل يتغير ويتأثر بشكل كبير بالسياسات والتدخلات الخارجية، وبشكل خاص طموحات الولايات المتحدة وإسرائيل في إعادة تشكيل المنطقة. وحتى يتم التوصل إلى تسوية شاملة تأخذ في الاعتبار مصالح جميع الأطراف وتخفف من حدة التوترات، ستبقى منطقة الشرق الأوسط ساحة مفتوحة لتنافس القوى الكبرى، ورهينة لصراع قديم متجدد لا يلوح في أفقه حل جذري. فهل تتمكن الدول العربية من الخروج من مربع الترقب إلى مربع المبادرة الفاعلة، لترسم لنفسها دوراً محورياً في صياغة مستقبل أكثر استقراراً للمنطقة؟

No comments:

Post a Comment