Monday, September 9, 2024

الذكاء الاصطناعي والصحافة Artificial Intelligence and Journalism


الذكاء الاصطناعي والصحافة

 د. نجم العيساوي
اتحاد الجامعات العربية


إن الذكاء الاصطناعي التوليدي (GAI) هو نظام تكنولوجي يعتمد على خوارزميات لإنشاء مختلف أشكال المحتوى من النصوص والصوت والصور ومقاطع الفيديو والرموز، وفضلاً عن تسريع المهام الروتينية مما يقلل العبء على الإنسان ويزيد من الكفاءة، فإن الذكاء الاصطناعي يتعدى إلى التحقق من الحقائق، ومعالجة البيانات، وتحويل الكلام، والترجمة. وتعد وكالة أسوشيتد برس (AP) واحدة من أقدم وسائل الإعلام الإخبارية التي دمجت الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأخبار في عام 2014. ثم تلتها منظمات إعلامية وصحفية أخرى مثل بلومبرج ورويترز وفوربس ونيويورك تايمز وواشنطن بوست وهيئة الإذاعة البريطانية لإنتاج الأخبار باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. وفي سبتمبر 2015، استخدمت القناة المالية لشركة تينسنت الصينية روبوتًا لكتابة الأخبار يُعرف باسم "Dream Writer"   واستمر في إصدار المزيد من التقارير، إذ وصل إلى 40 ألف تقرير خلال عام 2016 .

وبوقت قصير، تحديداً عام 2018، مكنت معالجة اللغة الطبيعية (NLP) والنماذج الكبيرة المدربة مسبقًا الآلات من قراءة النص والتعلم منه واستنتاج النية وتوليد المحتوى بشكل مستقل.  في نوفمبر 2022، كشفت OpenAI عن ChatGPT، وهي أداة معالجة لغة طبيعية مدفوعة بالذكاء الاصطناعي لمعالجة البيانات المتسلسلة، مما يسمح لها بفهم اللغة وتوليد النص. من خلال التدريب على مجموعات بيانات واسعة من المحادثات في العالم الحقيقي، يتمتع ChatGPT بثروة من المعرفة ويمكنه الانخراط في محادثات تشبه إلى حد كبير التفاعل البشري. بالإضافة إلى قدرات chatbot، يتفوق ChatGPT وأجياله في مهام مختلفة بما في ذلك تأليف البريد الإلكتروني وكتابة نصوص الفيديو وكتابة النصوص والترجمة والترميز.

 

هناك ثلاثة أنواع رئيسة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي العام في المؤسسات الإخبارية:

1.      أدوات الذكاء الاصطناعي العام: في هذا النوع، يلجا الصحفيون إلى أدوات الذكاء الاصطناعي العام بصورة شخصية للمساعدة في إنتاج الأخبار. إذ قد يطرح الصحفيون استفسارات على ChatGPT للحصول على المعلومات بسرعة ومساعدتهم في كتابة قصص إخبارية قصيرة وتجميع تغطية مواضيع مثل الطقس المحلي وحركة المرور .

2.      منصات GAI: تقدم منصات GAI مجموعة من واجهات برمجة التطبيقات المصممة لإنتاج المحتوى، بما في ذلك خدمات مثل تحليل المحتوى، وتحليل المشاعر، واستخراج الأحداث، وإنشاء الملخصات، والتوصيات الشخصية، وتحرير المحتوى، والتصور. في هذا النموذج من التعاون بين الإنسان والآلة، يسهم الصحفيون في المقام الأول بالبيانات النصية، بينما تتولى الآلات مهام إنشاء المحتوى وتقديمه. تدير GAI التنفيذ الفني، وتوفر الوسائط واجهات المستخدم. والنتيجة النهائية هي منصة GAI يمكن الوصول إليها من قبل المستخدمين النهائيين. ومن الأمثلة الرئيسة على هذا النهج المنتج التفاعلي لصحيفة نيويورك تايمز، A VALENTINE FROM A.I. TO YOU، والذي تم تطويره بمساعدة ChatGPT .

3.       أنظمة GAI: تتيح أنظمة GAI للمؤسسات إنشاء خوارزميات خاصة بها. تركز هذه الأنظمة في المقام الأول على تضمين القيم الأساسية للمؤسسة الإعلامية مباشرة في إطار نظام GAI . ويضمن أن المحتوى الناتج يلتزم بشكل وثيق بأسلوب التحرير ومبادئ المؤسسة. ومع ذلك، فإن هذا النهج يستلزم عادةً تكاليف أولية كبيرة، مما يجعله ممكنًا في المقام الأول بالنسبة لمجموعات الوسائط الأكبر حجمًا ذات الموارد المالية الواسعة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك منصة BloombergGPT التابعة لشركة Bloomberg، والتي تجسد هذا النهج في العمل .

 

الجانب التطبيقي للذكاء الاصطناعي العام في الصحافة

يمكن تلخيص ثلاثة مجالات يوظف فيها الذكاء الاصطناعي العام في الصحافة وهي:

1.     جمع المعلومات : وفر تكامل الذكاء الاصطناعي العام الكثير من الجهد والوقت والمال في مجال جمع المعلومات، إذ يستفيد الذكاء الاصطناعي من خوارزميات متطورة لغربلة مجموعات البيانات الواسعة، وتمييز نقاط البيانات ذات الصلة، ومعالجة البيانات والكشف عن معلومات عميقة، والتنبؤ بالاتجاهات للأحداث المعقدة وإعداد الصحفيين للأحداث غير المتوقعة. على سبيل المثال، تم تدريب برنامج Bard التابع لشركة Googleعلى مجموعة بيانات ضخمة من النصوص والرموز ليغطي موضوعات منوعة مثل التاريخ والعلوم والتكنولوجيا والقضايا الراهنة والتنبؤ باتجاهات الأحداث. وفي هذه المرحلة، يؤدي الصحفيون دورًا حاسمًا في تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي على تحسين قدرتها على تقييم مدى جدارة الأخبار، بهدف التوافق مع المعايير التحريرية للمؤسسة الإخبارية.

2.      إنتاج المحتوى: يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي إنشاء نص مصمم خصيصًا لنمط المؤسسة الإخبارية، مما يسهل المهام مثل النسخ والترجمة وتحديثات الأخبار اليومية. تسهم هذه التقنية في تحسين الجودة الشاملة وقابلية قراءة التقارير الإخبارية، وبالتالي توسيع نطاق المؤسسة ووصولها إلى جمهورها. كما ظهرت قنوات إخبارية تم إنشاؤها وتشغيلها فقط بواسطة الذكاء الاصطناعي بدون صحفيين ومحررين بشريين، مع NewsGPT، وهو موقع إخباري أمريكي تم إطلاقه في 1 مارس 2023، ويقف كقناة رائدة من نوعها في العالم. تتمكن خوارزميات NewsGPT من تحليل وتفسير البيانات من مجموعة واسعة من المصادر، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار والوكالات الحكومية. ثم يستخدم هذه البيانات لإنشاء التقارير. كما يمكن للذكاء الاصطناعي تقديم اقتراحات حول السرد، بما في ذلك الشخصيات والحبكات والخلفيات والمعلومات الرئيسة .

3.      التخصيص والنشر: تتمتع أنظمة GAI بالقدرة على تسجيل وتحليل الأنماط السلوكية للصحفيين والمحررين داخل غرف الأخبار، وبالتالي إنشاء قواعد بيانات شاملة يمكن من خلالها أن يقدم توصيات مخصصة لتعيين الصحفيين لمواضيع إخبارية محددة بناءً على خبرتهم وأدائهم السابق. ومن خلال تحسين تخصيص الموارد البشرية داخل فريق الصحفيين، يعمل GAI على تعزيز الكفاءة التشغيلية والإنتاجية الإجمالية في سير عمل إنتاج الأخبار. وعلاوة على ذلك، يشرك GAI الجمهور في إنتاج جديد من خلال النشر التفاعلي وجمع معلومات الجمهور وتفضيلاتهم ثم تخصيص الملخصات والعناوين الرئيسة والمحتوى لهم .

 

التحديات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي

على الرغم من فوائد الذكاء الاصطناعي في صناعة الأخبار، فإن دمجه لايخلو من تحديات. فمع تولي الذكاء الاصطناعي دورًا أكثر بروزًا في الصحافة، يجب على الصحفيين والإعلاميين مواكبة المشهد الديناميكي للذكاء الاصطناعي في قوة إنتاج الأخبار. إن أحد المخاطر الكبيرة للذكاء الاصطناعي هو أن المبادئ الأساسية للأخلاقيات الصحفية، بما في ذلك الحقيقة والدقة والموضوعية والمساءلة، قد تواجه تحديات غير مسبوقة في هذا النموذج المتطور . وفيما يلي التحديات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي في الإعلام والصحافة:

1.     الذاتية البشرية للصحفيين: يشمل الذكاء الاصطناعي قدرة الآلات على التعلم والاستدلال والتكيف واتخاذ القرارات على غرار البشر. كما تتضمن الأتمتة آلات أو أجهزة كمبيوتر تنفذ المهام بشكل مستقل مع الحد الأدنى من التدخل البشري. وتشير هذه الاتجاهات إلى تحول نحو التفاعل ثنائي الاتجاه بين البشر والآلات، إذ لا تستجيب أجهزة الكمبيوتر للأوامر البشرية فحسب، بل تعالج أيضًا المهام وتنفذها بذكاء والمشاركة في خلق المعنى وبناء السياق بناءً على المدخلات والتغذية الراجعة البشرية. في عصر الوسائط العميقة، الذي يتميز بالتفاعل المتساوي بين البشر والآلات، تحول دور الآلات في هذه العلاقة. لم تعد الآلات مجرد وسطاء بل أصبحت مشاركين نشطين في العمليات الاجتماعية، وتسهم في توليد المعلومات ونشرها. أي أن هناك خطر يتمثل في أن تقوم الآلات بجمع المعلومات الشخصية أو بيانات المستخدم دون تمييز دون قيود بشرية، وبالتالي انتهاك الخصوصية الفردية.

2.      المصداقية: إن المصداقية مبدأ أساس من أخلاقيات الصحافة، ومع ظهور العصر الرقمي، أصبحت المناقشات المحيطة بمصداقية الأخبار سائدة بشكل متزايد. في الواقع، الحقيقة ليست مطلقة ولكنها تقع ضمن نطاق قابل للقياس. وبفضل التقدم التكنولوجي، أصبحت الصحافة الآن أقرب إلى الحقيقة من أي وقت مضى، وأحيانًا تكون مفصلة ودقيقة بشكل مفرط، وتبدو أكثر وضوحًا من الواقع نفسه. على سبيل المثال، قدرة GAI على التحقق من الحقائق دقيقة للغاية إذ يحقق ChatGPT  معدل دقة يصل إلى 68.79٪  ومع ذلك، فإن فائدة GAI في جعل التلفيقات أصلية بشكل مقنع متسببا بما يسمى بالتزييف العميق، حيث تُستخدم الشبكات التنافسية التوليدية (GANs) لتبديل الوجوه ومزامنة الشفاه وإعادة تمثيل الوجه ونقل الحركة والمزيد، مما يؤدي إلى تضخيم تداعيات الذكاء الاصطناعي السلبية المحتملة. إن إنشاء الوسائط الاصطناعية ليس مشكلة في حد ذاته، لكن تصبح مشكلة عندما يتم تقديم هذه الوسائط دون شفافية وتتنكر في هيئة حقيقة.

3.      القيم: تشمل قيم الأخبار الصفات التي تعزز أهمية أو جاذبية القصة للجمهور. وتشمل العوامل الثابتة لقيم الأخبار المصداقية والتوقيت، في حين تشمل المتغيرات الشهرة والتأثير والقرب والاهتمام. ويرتبط عمق وتنوع القيم المضمنة في الحقائق الإخبارية ارتباطًا مباشرًا بالقيمة الإجمالية للتقرير الإخباري. ومع تطور الذكاء الاصطناعي العام، تحل القوة محل قيم الأخبار، مما يعني أن من يمتلك التكنولوجيا ويتحكم في الموارد يقرر ما يستحق النشر، مما يؤدي إلى احتكارها. وبالتالي، وتصبح أنظمة القيم عالمية، مما يتسبب في نهاية المطاف في تحول في قيم الأخبار نحو القوة. تشير الأبحاث إلى أن نماذج اللغة يمكن أن تؤثر بشكل خفي على قيم المستخدمين، مما يسلط الضوء على العواقب الوخيمة المحتملة للتحيزات السياسية في نماذج الذكاء الاصطناعي العام . يستخدم باحثون آخرون DALL- E وStable Diffusion  لتحويل النص إلى صور، مما يكشف أن هذه النماذج تعمل على إدامة الصور النمطية الشائعة.

 

إلى جانب ذلك، تفتقر المعايير القانونية الحالية إلى الآليات اللازمة لتحديد أضرار الذكاء الاصطناعي في إنشاء المحتوى، فضلاً عن الانخراط في بروتوكولات التقييم والتخفيف من المخاطر المستمرة لتقليل العواقب السلبية. وعلاوة على ذلك، يفرض دمج الذكاء الاصطناعي تحديات كبيرة على حماية الملكية الفكرية.

 

إن الذكاء الاصطناعي يعزز بشكل كبير كفاءة انتاج الأخبار عبر مهام مختلفة مثل جمع المعلومات، وتوليد المحتوى، وتخصيصه لجمهور معين، ونشره، وبالتالي تحسين عملية إنتاج الأخبار بشكل عام. وهذا يخفف عن المراسلين والمحررين البشر المهام الروتينية، مما يسمح لهم بالتركيز على المساعي الحاسمة مثل التحقق من الحقائق ومراقبة الأحداث الإخبارية المتكشفة عن كثب. وعلاوة على ذلك، تعمل الذكاء الاصطناعي على إثراء عمق واتساع محتوى الأخبار، وجذب انتباه الجمهور وتلبية احتياجاتهم المعلوماتية والعاطفية. وأخيرًا، تعزز الذكاء الاصطناعي التفاعل بين الجمهور والكيانات الإعلامية، وتمكين الجمهور وحث المؤسسات الإخبارية على دمج مجموعة من وجهات النظر في تقاريرها. ومن خلال تبني التنوع وتقليل التحيزات

وقد ينعكس توظيف الذكاء الاصطناعي على نزاهة الصحفيين واحترافهم، مما قد يؤدي إلى تدهور الجودة الإجمالية للمحتوى الإعلامي. واستجابة لهذه التحديات، لابد من منظومة أخلاقيات وتشريعات وإرشادات لغرف الأخبار للتنقل بفعالية بين هذه المعضلات الأخلاقية.

وفي الختام، يعد الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي لكل من المؤسسة والصحفي والجمهور أمراً غاية الأهمية للتخفيف من مخاطر تضخيم التحيزات ونشر المعلومات المضللة مع الضرر المجتمعي المحتمل.  ويحتاج الصحفيون إلى الانتقال من مجرد إنتاج المعلومات إلى العمل كمدققين دؤوبين للحقائق وتحمل مسؤولية إعلام الجمهور بالحقيقة بشكل نشط وانتقاد أي محتوى يفشل في تلبية المعايير الصارمة للصحافة، فضلاً عن ضرورة تعزيز مهارات التكامل بين التخصصات.

 

No comments:

Post a Comment